فصل: ذكر قوة زحفهم على البلد ومضايقته:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)



.ذكر هرب المركيس إلى صور:

ولما كان يوم الاثنين سلخ جمادى الأولى قوي استشعار المركيس أنه إن أقام قبضوا عليه وأعطوا صور للملك القديم الذي كان قد أسره السلطان لما عاناه من الأسر في نصرة دين المسح. ولما صح ذلك عنده هرب إلى صور فأنفذوا خلفه قسوساً ليردوه فلم يفعل وسار في البحر حتى أتى صور وشق ذلك عليهم وعظم لديهم فإنه كان ذا رأي وشجاعة وخبرة.

.ذكر وصول بقية عساكر الإسلام:

وفي سلخ جمادى الأولى قدم عسكر سنجار يقدمه مجاهد الدين برتقش فلقيه السلطان واحترمه وكان ديناً عاقلاً محباً للغزو فأنزله السلطان في الميسرة بعد أن أكرمه وأنزله في خيمته وفرح بقدومه فرحاً شديداً في ذلك الوقت ثم قدم بعد ذلك قطعة عظيمة من عسكر مصر كعلم الدين كرجي وسيف الدين سنقر الداودار وجماعة عظيمة ثم قدم بعد ذلك علاء الدين صاحب الموصل وعسكرهم فلقيه السلطان بالخروبة ونزلوا هناك إلى بكرة اليوم الثاني من جمادى الآخرة وأصبح سائراً حتى أتى بجحفله قبالة العدو وعرض عسكره هناك وأنزله السلطان في خيمته وحمل له من التحف وقدم له من اللطائف ما يليق بكرمه وأنزله في الميمنة، وفي الثالث قدمت طائفة من عسكر مصر أيضاً، واشتد مرض الأنكتار بحيث شغل الإفرنج شدته عن الزحف وكان ذلك خيرة عظيمة من الله تعالى فإن البلد كان قد ضعف من فيه ضعفاً عظيماً وضاق بهم الخناق وهدمت المنجنيقات من السور مقدار قامة الرجل، هذا واللصوص يدخلون إلى خيامهم ويسرقون أقمشتهم ويأخذون الرجال في غفلة بأن يجيئوا إلى الواحد وهو نائم فيضعوا على حلقه السكين ويوقظوه ويقولوا له بالإشارة إن تكلمت ذبحناك ويحملوه ويخرجوا به إلى العسكر وجرى ذلك مراراً وعساكر المسلمين تجتمع وتتواتر من كل جانب حتى تكامل وصولها.

.ذكر وصول رسولهم إلى السلطان:

كنت ذكرت وصول رسول منهم يلتمس من جانب الأنكتار أن يجتمع بالسلطان وذكرت عذر السلطان عن ذلك وانقطع الرسول وعاد معاوداً في المعنى وكان في حديثه مع الملك العادل ثم هو يلقيه إلى السلطان واستقر أنه رأى أن يأذن له في الخروج ويكون الاجتماع في المرج والعساكر محيطة بهما ومعهما ترجمان فلما أذن في ذلك تأخر الرسول أياماً عنده بسبب مرضه واستفاض أن ملوكهم اجتمعوا عليه وأنكروا عليه ذلك وقالوا هذه مخاطرة بدين النصرانية ثم بعد ذلك وصل رسوله يقول لا تظن تأخري بسبب ما قيل فإن زمام قيادي مفوض إلي وأنا أحكم ولا يحكم علي غير أن في هذه الأيام اعترى مزاجي التياث منعني من الحركة فهذا كان العذر في التأخير لا غير وعادة الملوك إذا تقاربت منازلهم أن يتهادوا وعندي ما يصلح للسلطان وأنا أستخرج الأذن من إيصاله إليه، فقال له الملك العادل قد أذن في ذلك بشرط قبول المجازاة على الهدية، فرضي الرسول بذلك وقال: الهدية شيء من الجوارح قد جلب من وراء البحر وقد ضعف فيحسن أن يحمل إلينا طير ودجاج حتى نطعمها لتقوى ونحملها، فداعبه الملك العادل وكان فقيهاً فيما يحدثهم به فقال: الملك قد احتاج إلى فراريج ودجاج ويريد أن يأخذها منا بهذه الحجة. ثم انفصل حديث الرسالة في الآخر على أن قال الرسول: ما الذي أردتم منا. إن كان لكم حديث فتحدثوا به حتى نسمع. فقيل له عن ذلك: نحن ما طلبناكم، أنتم طلبتمونا فإن كان لكم حديث فتحدثوا به حتى نسمع. وانقطع حديث الرسالة إلى سادس جمادى الأخرى فخرج رسول الأنكتار إلى السلطان ومعه إنسان مصري قد أسروه من مدة طويلة وهو مسلم قد أهداه إلى السلطان فقبله وأحسن إليه وأعاد مشرفاً مكرماً إلى صاحبه وكان غرضه بتكرار الرسائل تعرف قوة النفس وضعفها وكان غرضنا بقبول الرسائل تعرف ما عنده من ذلك أيضاً.

.ذكر قوة زحفهم على البلد ومضايقته:

ولم يزالوا يوالون على الأسوار بالمناجيق المتواصلة والضرب وتنقلوا أحجارها حتى خلخلوا سور البلد وأضعفوا بنيانه وأنهك التعب والسهر أهل البلد لقلة عددهم وكثرة الأعمال حتى أن جماعة منهم بقوا ليالي لا ينامون أصلاً لا ليلاً ولا نهاراً، والخلق الذين عليهم عدد كثير يتناوبون على قتالهم وهم نفر يسير قد تقسموا على الأسوار والخنادق والمنجنيقات والسفن ولما أحس العدو بذلك وظهر لهم تخلخل السور وتقلقل بنيانه شرعوا في الزحف من كل جانب وانقسموا أقساماً وتناوبوا فرقاً كلما تعب قسم استراح وقام غيره مقامه وشرعوا في ذلك شروعاً عظيماً براجلهم وفارسهم سابع الشهر، هذا مع عمارتهم أسوارهم الدائرة على خنادقهم بالرجالة والمقاتلة ليلاً ونهاراً، ولما علم السلطان بذلك بإخبار من يشاهده وإظهار العلامة التي بيننا وبينهم وهي دق الكؤوس ركب وركب العسكر إليهم وجرى في ذلك اليوم قتال عظيم من الجانبين وهو كالوالدة الثكلى يحول بفرسه من طلب إلى طلب ويحث الناس على الجهاد، ولقد بلغنا أن الملك العادل حمل بنفسه في ذلك اليوم مرتين والسلطان يطوف بين الأطلاب بنفسه وينادي يا للإسلام وعيناه تذرفان بالدموع وكلما نظر إلى عكا وما حل بها من البلاء وما يجري على ساكنيها من المصاب العظيم اشتد في الزحف والحث على القتال، ولم يطعم في ذلك اليوم طعاماً البتة وإنما شرب أقداح مشروب كان يشير بها الطبيب وتأخرت عن حضور هذا الزحف لإلمام مرض شوش مزاجي لما عراني فكنت في الخيمة في تل العياضية وأنا أشاهد الجميع، ولما هجم الليل عاد رحمه الله إلى الخيم بعد العشاء الآخرة وقد أخذ منه التعب والكآبة والحزن فنام لا عن عفو.
ولما كان سحر تلك الليلة أمر الكؤوس أن دقت وركب العساكر من كل جانب وأصبحوا على ما أمسوا عليه وفي ذلك اليوم وصلت مطالعة عن البلد يقولون فيها أنا قد بلغ منا العجز إلى غاية ما بعدها إلا التسليم ونحن في الغد ثامن الشهر إن لم تعملوا شيئاً نطلب الأمان ونسلم البلد ونشتري مجرد رقابنا وكان هذا أعظم خبر ورد على المسلمين وأنكى في قلوبهم فإن عكا كانت قد احتوت على جميع سلاح الساحل والقدس ودمشق وحلب ومصر وجميع البلاد الإسلامية واحتوت على كبار من أمراء العسكر وشجعان الإسلام كسيف الدين المشطوب وبهاء الدين قراقوش وغيرهما وكان قراقوش ملتزماً بحراستها منذ نزل العدو عليها وأصاب السلطان ما لم يصبه شيء مثله وخيف على مزاجه التشويش وهو لا يقطع ذكر الله والرجوع إليه في جميع ذلك صابراً محتسباً ملازماً مجتهداً والله لا يضيع أجر المحسنين، فرأى الدخول على القوم ومهاجمتهم فصاح في العسكر الصائح وركبت الأبطال فاجتمع الراجل والفارس واشتد الزحف ولم يساعده العسكر في ذلك اليوم على الهجوم على العدو فإن رجالته وقفوا كالسور المحكم البناء بالسلاح والزنبورك والنشاب من وراء أسوارهم وهجم عليهم بعض الناس من بعض أطرافهم فثبتوا وذبوا غاية الذب، ولقد حكى بعض من دخل عليهم أسوارهم أنه كان هناك راجل واحد إفرنجي صعد سور خندقهم واستدبر المسلمين وإلى جانبه جماعة يناولونه الحجارة وهو يرميها على المسلمين الذين يلاصقون سور الخندق وقال إنه وقع فيه زهاء خمسين سهماً وحجراً ولا يمنعه ذلك عما هو بصدده من الذب والقتال حتى ضربه زراق مسلم بقارورة فارقه. ولقد حكى لي شيخ عاقل جندي أنه كان من جملة من دخل قال وكان داخل سورهم امرأة عظيمة عليها ملوطة خضراء فما زالت ترمينا بقوس من خشب حتى خرجت منا جماعة وتكاثرنا عليها وقتلناها وأخذنا قوسها وحملنا إلى السلطان فعجب من ذلك عجباً عظيماً ولم يزل الحرب يعمل بين الطائفتين بالقتل والجرح حتى فصل بينهم الليل.

.ذكر ما آل إليه أمر البلد من الضعف ووقوع المراسلة بين أهل البلد والإفرنج:

ولما اشتد زحفهم على البلد وتكاثروا عليها من كل جانب وتناوب ضعف أهل البلد لما رأوه من عين الهلاك واستشعروا العجز عن الدفع وتمكن العدو من الخنادق فملكوها وتمكنوا من سور الباشورة فنقبوه وأشعلوا فيه النار بعد حشو النقب ووقعت بدنة من الباشورة ودخل العدو الباشورة وقتل منهم فيها مائة وخمسون نفراً وصاعداً وكان فيهم ستة من كبارهم فقال لهم واحد لا تقتلوني حتى أرحل الفرنج عنكم بالكلية فبادر رجل من الأكراد فقتله وقتل الخمسة الأخرى وفي الغد نادى الإفرنج احفظوا الستة فإنا نطلقكم كلكم بهم فقالوا قد قتلناهم فحزن الإفرنج لذلك حزناً عظيماً وطلبوا الزحف بعد ذلك أياماً ثلاثة.
وبلغنا أن سيف الدين المشطوب خرج بنفسه إلى ملك الفرنسيس بالأمان وقال له قد أخذنا منكم بلاداً عدة وكنا نهجم البلد وندخل فيه ومع هذا إذا سألونا الأمان أعطيناهم وحملناهم إلى مأمنهم وإكرامهم ونحن نسلم البلد وتعطينا الأمان على أنفسنا فأجابه بأن هؤلاء الملوك الذين أخذتموهم منا وأنتم أيضاً مماليكي وعبيدي فأرى فيكم رأيي وبلغنا أن المشطوب بعد ذلك أغلظ له في القول وقال أقاويل كثيرة في ذلك المقام منها أنا لا نسلم البلد حتى نقتل بأجمعنا ولا يقتل منا واحد حتى يقتل خمسون نفساً من كباركم وانصرف عنه.
ولما دخل المشطوب البلد بهذا الخبر خاف جماعة ممن كانوا في البلد فأخذوا بركوساً وركبوا فيه ليلاً خارجين إلى العسكر الإسلامي منهم أرسل ولبن الجاولي وسنقر الوشاقي فأما أرسل وسنقر فإنهما تغيبا في العسكر ولم يعلم لهما مكان خشية من نقمة السلطان. وأما ابن الجاولي فظفر به ورمي في الزردخانة.
وفي سحر تلك الليلة ركب السلطان مشعراً أنه يواصل كبس القوم ومعه المساحي وآلات طم الخنادق فما ساعده العسكر على ذلك وتخاذلوا عن ذلك وقالوا نخاطر بالإسلام كله ولا مصلحة في ذلك.
وفي ذلك اليوم خرج من الأنكتار رسل ثلاثة طلبوا فاكهة وثلجاً وذكروا أن مقدم الأسبتار يخرج في الغد يتحدث في معنى الصلح غير أن السلطان أكرمهم سوق العسكر وتفرجوا فيه وعادوا تلك الليلة إلى عسكرهم.
وفي ذلك اليوم تقدم إلى صارم الدين قايماز النجمي حتى يدخل هو وأصحابه إلى أسوارهم وترحل جماعة من أمراء الأكراد كالجناح وأصحابه وهو المشطوب وزحفوا حتى وصلوا أسوار الإفرنج ونصب قايماز بنفسه علمه على سورهم وقاتل عن العلم قطعة من النهار ووصل في ذلك اليوم عز الدين جرديك النوري وسوق الزحف قائم فترجل هو وجماعته وقاتل قتالاً شديداً واجتهد الناس اجتهاداً عظيماً.
وفي العاشر أصبح القوم ساكتين عن الزحف والعساكر الإسلامية محدقة بهم وقد باتوا ليلتهم شاكي السلاح راكبي ظهور خيلهم منتظرين عسى أن تمكنهم مساعدة إخوانهم المقيمين بعكا ويهجموا على طرف من الإفرنج فيكسروهم ويخرجوا يحمي بعضهم بعضاً ويخرج العسكر يجاوبهم من هذا الجانب فيسلم من سلم ويؤخذ من أخذ فلم يقدروا على الخروج وكان قد ثبت ذلك معهم فلم يتهيأ لهم في تلك الليلة خروج بسبب أنه كان هرب منهم بعض الغلمان فأخبر العدو بذلك فاحتاطوا بهم وحرسوهم حراسة عظيمة.
ولما كان يوم الجمعة العاشر خرج منهم رسل ثلاثة واجتمعوا بالملك العادل وتحادثوا معه ساعة زمانية وعادوا ولم ينفصل الحال وانقضى النهار على مقام المسلمين بالمرج في مقابلة العدو وباتوا على مثل ذلك.
ولما كان السبت الحادي عشر لبست الفرنج بأسرها لباس الحرب وتحركوا حركة عظيمة بحيث أنهم اعتقدوا رجلكان صاف واصطفوا وخرج من الباب الذي تحته القبة زهاء أربعين نفساً واستدعوا جماعة من المماليك وطلبوا منهم العدل الزيداني وذكروا أنه صاحب صيداً طليق السلطان فحضر العدل وجرى مبادلة أحاديث في معنى إطلاق العسكر الذي بعكا واشتطوا في ذلك اشتطاطاً عظيماً وتصرم نهار السبت ولم ينفصل حال.